أنا مسلم، أسالم من يسالمني، وأتحدى من يعاديني، لكن لكى تصبح جهودى فعالة، وإصلاحاتى منتجة، يجب عليّ أن أعلم ماهية التحديات الكبرى التى تواجه العقل المسلم والأمة المسلمة، ليكون ذلك دليل هداية وتوجيه لأعمال التغيير والإصلاح، ويكون المقياس نتائج حقيقية عملية، لا مجرد دعاوى وسرد تمنيات القدرة العلمية والتقنية "التكنولوجية".
فالتحدى الأكبر الذى يواجه العالم الإسلامى اليوم، ويجب مواجهته والتغلب عليه، وهو أساس النجاح فى كل شيء، هو تحدى "القدرة العلمية التكنولوجية" التى أخضعت قدراتها الهائلة شعوب العالم الإسلامى وقهرتها. فمن الخطر أن يبقى العالم الإسلامى مجرد سوق استهلاكية، ولن تتطور عقلية المسلم العلمية، وتنمو قدرته النفسية الإبداعية إلا بعدما يمتلك الإنسان المسلم فكرا إنسانيا اجتماعيا حيا، وعلوما اجتماعية إنسانية حية، ومنهجيات علمية سننية تقوم على عقول بشرية نابهة.
فثقافة العلم والتقنية هى ثقافة سننية، ومنهجيتها منهجية سننية، وهذا لا يضمن وحده حصول ثقافة وحضارة علمية روحية خيّرة إلا إن كان هدفها التنظيمى الاجتماعى والإبداعى العلمى هدفا خيّرا، يستند إلى هداية ثوابت الإيمان بالله الحق، وعلى أساس مقصد التوحيد الأخلاقي، وقيم العدل والتكافل والسلام، لا الاستكثار والاستكبار، وتوليد أسلحة البلاء والدمار.
ولمواجهة تحدى "العلم والتقنية" يتصدى المسلم للإشكالات الثقافية والتربوية ليوفر النجاح فى امتلاك القدرة العلمية التقنية. وأهم إشكال هو إشكال الثقة بالنفس. فالثقة بالإنسان، وعقل الإنسان، وحق الإنسان، والدفاع عن الذات والمقدسات، هى ركائز أساسية قبل بدء الحوار بين المثقفين والمفكرين سواء من جماعة التقليديين والعصريين، أو من الدينيين والمدنيين والعلمانيين.
فخطر التصادم بين "الأجهزة" الدينية التى سيطر عليها إحساس الخوف بالخطر بسبب الهجمة الثقافية الغازية، وبحكم ضعف القدرة على مواجهتها أصبح السائد فى خطابها مسحة "الترهيب" والهجوم المعاكس على المدنى والعلمانى ووصم المخالفين له بالخروج والمروق، وبين عدم اقتناع المدنى بمقولات الدينى ومناهج فكره وخطابه أدى بدوره إلى إرهابية خطاب المدنى والعلمانية وعدوانيته، ووسم الدينيين جزافا بالتخلف والجهل، لأنه لا ينحو منحاه فى انبهاره وتقليده الأعمى للآخر.
هذا التصادم أدى إلى استقطاب هدام صرف المدنى والعلمانى الجاهل عن معرفة مكنون دينه وحضارته، ليقف من الدين والتاريخ موقفا يتراوح فيه بين العداء وعدم المبالاة، كما صرف الدينى فى الوقت نفسه عمّا حققته الحضارة الإنسانية من معارف خوفا منه على دينه وتراثه وتاريخه من روح الهزيمة والاستسلام للمستورد من العلوم الإنسانية والعقلية.
ومن هنا ظهرت مدرستان إحداهما دينية حرفية تقليدية، والأخرى تقابلها وتعارضها مدنية علمانية تقليدية حرفية مستغربة. وبنى جوهر قصورهما وتعارضهما غالبا على الخوف والعجز والجهل. وللخروج من هذا الوضع الخطير وجب نزع فتيل الإرهاب الفكرى فى الخطاب لدى كل الأطراف من أصحاب الفكر والمعرفة، وإزالة عجز الجهل فى جوانب فكر المتعارضين، ويستحيل الوصول إلى التوفيق إلا بالفكر الوسطى المعتدل والنير، وهذا يتحقق بالحوار الصريح والحجج المقنعة، وإعمال الفكر فى قضايا الخلاف وأن يحل محل التصادم روح التكاتف فى بناء المشروع الحضارى الإسلامى القائم على قيم العدل، والتكافل، والسلام، والعلم، والعقل، والإتقان، والإحسان.
ومن هنا وجب تمهيد أرض الحوار، ثم الاتفاق على الثوابت، والاتفاق على الأهداف والغايات، وعرض الإشكالات الأساسية لدى كل فريق بما يسمح بتبادل وجهات النظر، وتبادل المعلومات المتعلقة بقضايا الخلاف والإشكالات المطروحة، وإدراك جوهرها، وإيجاد الحلول المقبولة المناسبة لمعالجتها إشكالاتها، بما يقيم أرضا وأهدافا مشتركة مبنية على الثوابت والغايات المشتركة وبروح تقبل الآخر، وإدامة الحوار المثمر، والتعاون الخير معه، فى وحدة حضارية إنسانية.
وبفضل الاتفاق يمتلكون أسباب القوة المادية والمعنوية، فيقع الإصلاح وتتحرك كوامن الطاقة، ويلتزم الجميع بمكارم الأخلاق. وأن يكمل كل فريق بإيجابياته الفريق الآخر، وتُزال كل السلبيات من الفريقين وهو حلم ولكن قد يكون حلما ويصبح بالعزيمة حقيقة.
إن الأمة الإسلامية تعانى من تصادم الفكر المدنى العلمانى التقليدى والفكر الدينى الحرفى التقليدي. وإصرار كل فريق منهما على الجهل بالآخر، وبحصيلة علم الآخر وفكره وقدراته، مما يحيل الحوار إلى منابذة الجهلاء وملاحاتهم، ويؤدى إلى تعميق الخلافات فيما بينهم وسد منافذ اللقاء فيغيب ضمير الأمة ويخمد عزمها فليتحرك الجيل الجديد من العلماء والمثقفين الذين يتحلّون بعلم الوحى والشهادة، وبإدراك مقاصد الدين وقيمه، وكنوز التراث ودروسه وعبره، وبمعرفة علوم الإنسان والاجتماع، والمواد ومنهاج السنن التجريبية، وليأخذ العلماء والمثقفون مناهجهم بتوسيع دائرة معارفهم وامتلاك ناصية الحوار والتعاون المثمر، وعلى الجامعات ومراكز البحث العلمى أن تقدم المناهج وتهدى إلى المصادر، وتطور المواد اللازمة لثقافة المسلم فى جوانبها المعرفية الدينية الإلهية والسننية الإنسانية.
لقد دعا عديد الخبراء من أهل الذكر النيرين إلى التزود بالعلم بمعرفة مقاصد الدين وقيمه وطاقات علوم السنن وإلى دراسة الأسباب التى تحول دون تمثل عامة الأمة لقيم دينهم وغاياته، وإلى تنقية ثقافة الأمة من فكر الشعوذة والخرافة والحيوانية المتوحشة لأن الخصام بين الآراء المتقابلة إذا لم يهدأ باعتماد الفكر الوسطى المعتدل فإن الأمة الإسلامية هى الخاسرة فى عالم كشف عنه الغطاء وصار بصر كل الناس شرقيها وغربيها وشماليها وجنوبيها حديدا لا تخفى عنه خافية وكان الإنسان ميالا ومستسلما لهواه لا لعقله منذ بدء الخليقة.
إننى أحذر الجميع من مظنة غيبة الوعى من جانب، ومظنة الإلحاد والجحود من جانب آخر، وما ينجر عن هذا التعارض والاستقطاب، من انقطاع الحوار، وتعارض المواقف وثورة الصراعات العقيمة، فتختلط الأمور ويعسر الخلاص فالله الهادى للصلاح والوفاق والسلام والإدراك الطاهر المحقق للسعادة البشرية وتقدمها بالعلم والعقيدة والفضيلة.